شهد العالم أزمات اقتصادية خانقة واضطرابات مالية طاحنة ومضاربات في أسعار البورصة وتقلبات في مراكز المال العالمية أدت بمجملها الى نشوء حدثين هامين على خريطة الاقتصاد العالمي.
الحدث الأول تمثل في الارتفاعات الشاهقة التي تجلت بوضوح في معدلات التضخم القياسية لأسعار الذهب والبترول والسلع الأساسية (كالأرز والسكر والقمح والذرة) والمواد الأولية (كالفحم والنفط الخام والغاز والاسمنت) والممتلكات العقارية وايجارات المساكن والمكاتب التجارية وأجور النقل والشحن، وما الى ذلك من الأمور الرئيسية التي تهم الإنسان في تأمين معيشته وتلبية متطلباته الاستهلاكية وتغطية احتياجاته الأساسية. أما الموضوع الثاني، وهو الذي أدى في الأصل الى ظهور الوضع الأول على ساحة الأحداث الدولية، فهو التراجع الغريب الذي طرأ على قيمة الدولار الأميركي مقابل عملات رئيسية أخرى كاليورو والين والجنيه الاسترليني وغيرها، وذلك على مدى أكثر من عام مضى.
ولكن ما هي العلاقة بين هبوط قيمة الدولار الأميركي وبين تصاعد الأسعار؟ من المعلوم لدى الجميع أن التوأمين (الذهب الأصفر والذهب الأسود أي النفط) مقومان بالدولار، أي أن العملة الأساسية التي تستخدم غالباً في تعاملات عالم الأعمال لإتمام الصفقات التجارية وعقود السلع الآجلة هي الدولار الأميركي. فإذا انخفضت قيمة الدولار لأي سبب سواء كان اقتصادياً أو اجتماعياً أو سياسياً... إلخ، فإنه من الطبيعي نظراً لهذه الرابطة الوثيقة أن يؤدي ذلك الى ارتفاع أسعار السلع الغذائية والمنتجات الاستهلاكية والمواد الأولية سواء المقوم منها بالدولار الأميركي أو تلك التي تستورد من الخارج لأغراض الاستهلاك المحلي والتي عادة ما يتم سداد فاتورتها بالدولار الأميركي. بالإضافة الى ذلك، فإن معظم العملات الوطنية للبلدان العربية بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالدولار الأميركي، أي أن العملة الرئيسية التي تشكل العمود الفقري للاحتياطات الأجنبية لهذه الدول من العملات الصعبة هي أيضاً الدولار الأميركي. فالدولار الأميركي مثلاً يشكل ما يعاد 80% من الاحتياطات الأجنبية للأردن. أضف الى ذلك أن أي ترنح انحداري في قيمة الدولار الأميركي سوف يؤدي بالنتيجة الى انخفاض القيمة الاجمالية للاحتياطيات الأجنبية، ما سيؤثر سلباً على تغطية قيمة البضائع والخدمات المستوردة التي سترتفع قيمتها تبعاً لذلك. وإذا كانت صادرات دولة ما عالية التكلفة ما يجعلها باهظة الثمن أو ذات نوعية أقل من المستوى المرغوب بحيث تصبح غير قادرة على التنافس التجاري، فإن ذلك سيؤدي الى توسيع الفجوة بين قيمة صادراتها وقيمة وارداتها وبالتالي تفاقم العجز في ميزانها التجاري.
إذاً، كيف وصلت بنا الأمور الى هذا الحال؟ وما هي الأسباب التي جعلت قيمة الدولار تتهاوى بهذه الوتيرة التنازلية وتصل الى ما وصلت اليه؟ على الصعيد المالي، هناك أزمتان رئيسيتان كان لهما نصيب الأسد في انحسار قيمة الدولار الأميركي وهما أزمة الرهن العقاري وأزمة الائتمانات المصرفية. تسببت هاتان الأزمتان بشكل مباشر في تراجع أسعار العقارات والمنازل في الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة الى خسائر مالية فادحة تكبدتها البنوك التجارية والمؤسسات الإقراضية. أما القرارات المتعاقبة التي تبناها المجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) والتي دعت كلها الى إبقاء نسبة الفوائد منخفضة على فترات طويلة، فقد نتج عنها تقديم تسهيلات كبيرة وعالية المرونة من قبل الدائنين كالبنوك التجارية وشركات الوساطة التجارية التي تعمل بنظام العمولة وشركات التأمين في منح قروض إسكانية في غياب وجود ضمانات أو رهونات كافية، ما أدى الى إغراق الأسواق المالية بوافر غزير من المعروض النقدي والسيولة المالية وبالتالي الى تراجع قيمة الدولار. وعندما عادت معدلات الفوائد الى الارتفاع بفعل القرارات المعاكسة التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي، وجد المقترضون أنفسهم مضطرين الى دفع الزيادات أو الفروقات النقدية التي انعكست قسرياً في أقساط مساكنهم وفوائدها، ما أوصلهم تدريجياً الى حالة حرجة من الفشل الذريع في سداد أقساط هذه القروض الإسكانية، وبالتالي السقوط في براثن التخلف عن الدفع، وهذا ما أدى الى ظهور ظروف ملتهبة وصعبة للغاية على صعيد أسواق الرهن العقاري نجم عنها انخفاض كبير في قيمة الأملاك والعقارات المرهونة أدى في النهاية الى انهيار أسعار المساكن ليس فقط في سوق العقار الأميركي المحلي بل وصلت تداعياته الى العديد من الأسواق الأوروبية والآسيوية أيضاً.
وعلى صعيد التطورات الاقتصادية الدولية فقد ساهم التنامي الملحوظ للعديد من الاقتصاديات الصاعدة أو الناشئة مثل دول بريك (BRIC) (البرازيل وروسيا والهند والصين) وجنوب افريقيا والمكسيك والأرجنتين وكوريا الجنوبية وماليزيا والسعودية في ارتفاع أسعار المحروقات والمواد الغذائية على مستوى العالم ككل وذلك بسبب التحسن النسبي في مستوى معيشة سكان الدول الناهضة جراء النمو المضطرد في معدلات دخول الأفراد والأسر وجني المزيد من المال، الأمر الذي أدى الى تغير ايجابي في نمط الإنفاق الفردي والأسري معاً كانت نتيجته زيادة ملموسة في مستوى الطلب الكلي على الطاقة والغذاء. ومع أن الدولار المنخفضة قيمته كان من المفترض أن يكون عاملاً مشجعاً على تحفيز وإنعاش الصادرات الأميركية، إلا أن ذلك لم يحدث كما كان مأمولاً لأسباب عديدة، نذكر منها مثلاً تفوّق الصين في مجال التصدير الصناعي نتيجة لانخفاض أسعار منتجاتها وذلك بسبب تدني كلف الانتاج المباشرة، إضافة الى الميزة التصديرية التي تتحلى بها الصين، الأمر الذي يمنحها قدرة تنافسية أكبر في غزو الأسواق التجارية العالمية بما فيها أسواق الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا وآسيا والدول العربية.
(تعرف الميزة التصديرية في علم الاقتصاد بالميزة النسبية أي الميزة التي تتسم بها دولة ما في مجال التصدير نسبة الى نفس المجال في دول أخرى عادة ما تكون فيها التكاليف المباشرة التي تدخل في عمليات انتاجها نسبياً أعلى بكثير مما هي عليه في تلك الدولة، ما يجعل من هذه الدول أقل كفاءة انتاجية، وبالتالي يفقدها خاصية شديدة الأهمية ليس فقط في تحسين مستوى التصنيع التجاري مما يساهم في تحقيق مستوى أفضل من الايرادات للخزينة العامة بل أيضاً في تحجيم عمليات الاستيراد وبالتالي تخفيض معدلات الاستهلاك أو الإنفاق الخارجي، ألا وهي القدرة على التنافس التجاري).