مع انتشار الأزمة المالية وتعمّقها في النظام العالمي، هل يبدو الموقع الجيواستراتيجي للولايات المتحدة في خطر؟ وماذا يعني حدوث ذلك؟ أولى النتائج المباشرة ظهرت في وول ستريت ثم انتشرت في العالم، وهذا يعني أن سمعة الولايات المتحدة ونفوذها على المحك الآن.
وهكذا فإن الرئيس القادم سوف يواجه بيئات متغيرة ومختلفة، ومواقف جديدة. والمقدّر أن يكون العجز في الموازنة لهذا العام 407 بلايين دولار، بعد أن كان في العام الماضي 237 بليون دولار. ولأن الأعمال والأُسر ستتضرر كثيراً، فإن الدولة محتاجة لإنفاق كبير على إجراءات وتصرفات المساعدة الاجتماعية.
وفي وجه هذا النهر المتدفق من الحبر الأحمر، تردد كل من باراك أوباما وجون ماكين في شرح الإجراءات التي سيتخذها كلٌ منهما للتقليل من طموحات برنامجه وحدودها. ووحده جو بايدن تحدث عن إمكانية خفض المساعدات الخارجية. وهذا الاقتراح سيحظى بشعبية كبيرة، لكنه بالنسبة للموازنة ليس أكثر من حبات رمل قليلة في مطحنة قمح. ومع ذلك فإن إشارة السناتور بايدن تتجه الى المواضع التي يمكن أن تصير إليها الولايات المتحدة: تراجع الدور الأميركي في العالم، وربما أيضاً مرحلة جديدة من الانعزال على المستوى المالي والاقتصادي. ثم إن الضغوط ستزداد لتقليل النفقات العسكرية في حرب نشنّها على جبهتين. وهذه الضغوط كانت شديدة قبل الأزمة، ولا شك أنها ستتصاعد الآن. ورغم نجاحات العام 2008 في العراق؛ فإن الحرب هناك ما تزال غير شعبية بالداخل الأميركي. وقد كان الانسحاب السريع من العراق شعبياً بالولايات المتحدة، ولا شك أن شعبية الانسحاب ستزداد بعد الأزمة المالية؛ خصوصاً أن الحرب المذكورة تكلّف مئات البلايين من الدولارات سنوياً.
وستزداد النزعات الحمائية تصاعداً ما دامت الأعمال وفرص العمل تتضاءل أو تختفي. وقبل الأزمة بمدة كانت هناك ميول لدى كثرة من الديموقراطيين وقلة من الجمهوريين لتخفيض الاستيراد من أجل توفير فرص العمل، أما الآن فإن مطالب كهذه ستلقى آذاناً صاغية.
ثم هناك الخطر الآخر على مستوى العالم، والمتمثل في إمكان انهيار الهندسة المالية العالمية. فمنذ عقود يتمتع الأميركيون بأنهم المركز للنظام المالي العالمي. وهذا الاستعمال العالمي الكبير للدولار، جعل من الممكن أن نمضي بعجز كبير في الموازنة، باعتبار أن الثقة بالاقتصاد المستقر والنقد المستقر، سوف تجلب للولايات المتحدة أرباحاً طائلة من الخارج باعتبار الأمان والاطمئنان، فهل سيكون ذلك ممكناً بعد الآن؟
ولدينا من جهة أخرى التحديات التقليدية المعروفة في السياسة الخارجية. فالتهديد من القاعدة والإرهاب الإسلامي ما انتهيا. وإيران وكوريا الشمالية ماضيتان في برنامجهما للتحدي والمنازعة. وباكستان وأفغانستان تتسارعان باتجاه الفوضى الكارثية. وروسيا تتصاعد نزعاتها العسكرية؛ في حين تقوى الصين الى ما لا نهاية في كل شيء، وهذا كله يعطي أسباباً للخوف والتوجّس.
ولو أن أميركا حاولت الآن أن تنكفئ عن العالم باتجاه الداخل؛ فإنها سوف تُخلّف فراغ قوة مخيفاً. لدينا وجود مطمئن ومعين على الاستقرار في آسيا. ولدينا وجود ونفوذ يحمي الازدهار الأوروبي. ولدينا المصالح الكبرى وحماية آبار الطاقة وممراتها في الشرق الأوسط. وكل هذه الأمور يعرّضها الانكفاء للخطر والتهديد.
إن في المشهد الحالي مشابهات مع ما حصل في الثلاثينات من القرن الماضي. وقتها حدث انهيار في التجارة المالية الدولية، وعجزت الديموقراطيات المسالمة عن التعاون فيما بينها. واستغل المتطرفون الذين صعدوا على وقع الأزمة الاقتصادية والبؤس، وانقسام الديموقراطيات، لاغتصاب السلطة، وشنّ الحروب. ونحن اليوم نعاني خطر أن يصبح السلاح النووي لعبة في أيدي المتطرفين دولاً وتنظيمات، وأن يهددوا الأمن والسلم العالميَين في وقت نحن فيه في أشد حالاتنا ضعفاً.
ولا شك أن ترددات الزلزال ستحدث على الآخرين آثاراً أعظم مما أحدثته لدينا. ولنتأمل كيف انهار سوق الأسهم في روسيا الاتحادية. وهي دولة تعتمد على ارتفاع أسعار النفط، والذي انخفض الى النصف خلال الأزمة بسبب الجمود الاقتصادي. وربما كانت الصين أكثر هشاشة من روسيا. ذلك أن اقتصادها يعتمد على الاستثمار الخارجي وعلى التصدير. ولا شك أن الأمرين سيتباطأان الآن. وهذا قد يسبّب اضطرابات بالداخل أسرع مما نتوقع، في دولة يعتمد نظامها في شرعيته على أن يؤمن السير الدائم باتجاه الازدهار والنمو. ولا شيء من هذه التوقعات يبعث على السرور إذا اتجه قادة تلك الدول الاستبدادية الى صرف أنظار جمهورهم عن مشكلات الداخل بالمغامرات الخارجية.
أما أصدقاؤنا في الدول الديموقراطية؛ فإن الأزمة تنزل بهم وهم يحاولون الخروج من سنوات من النمو البطيء، والإدارة السيئة، والنقص السكاني. أما اليابان، ورغم ديناميتها وحركيتها المشهود لها؛ فإنها تعاني المشكلات نفسها. والهند ما تزال في المراحل الأولى للتحول الى قوة اقتصادية عالمية كبرى.
ماذا يعني هذا كله؟ هذا يعني أنه لا بديل للولايات المتحدة على المسرح العالمي. والمحنة التي نواجهها ذات وجهين: وجه الانكفاء بما يحمله من أخطار الفوضى الكارثية، ووجه استمرار الدور بأعبائه وتكاليفه الباهظة.
هل نحن مؤهلون لاستمرار الدور والقيادة؟ كان الاقتصاد الأميركي تاريخياً شديد المرونة والصلابة في الوقت نفسه. وتسود الثقافة الأميركية قيم السوق وممارساته. ولدينا الروح التجارية الخبيرة والقوية والمنطلقة. ولدينا المؤسسات المتطورة، والنمو السكاني الجيد. والشعب الأميركي ذو قدرة وصلابة. لكن السياسات والقيادات بعد الحرب الباردة كانت فقيرة وقصيرة النظر، وغير مقنعة. وقد شاع الانقسام الداخلي، وتصاعد العداء للولايات المتحدة في أجزاء من العالم. وكل ذلك أدى الى تراجع للولايات المتحدة، رغم قدراتها الهائلة.
وفي استطلاع للرأي قام به معهد شيكاغو للسياسات العالمية، قال 36% من المستطلَعين انهم يفضّلون انسحاباً أميركياً من الشؤون العالمية. وهذه أكبر نسبة في هذا الشأن منذ العام 1947. ولذا فإن الأزمة المالية الحالية قد تكون القشة التي تقصم ظهر البعير. في الماضي، كان الأميركيون قادرين على إيصال قادة حقيقيين الى سدّة الشأن العام عندما يكون ذلك ضرورياً. ولذا فعندما يذهب الأميركيون الى صناديق الاقتراع عليهم أن يسألوا أنفسهم أي من هؤلاء المرشحين هو الأكثر تبصراً وتجربة وشجاعة وحكمة، بحيث يكون قادراً على التصرف في موقف خطير مثل الذي نحن فيه.