ماذا يحصل للمسيحيين في الموصل؟ هل هي بداية المرحلة الأخيرة لاستنزاف مسيحيي العراق استنزافاً كاملاً؟
في بداية الأسبوع المنصرم كشف النائب العراقي يونادم كنا، وهو أحد نائبين مسيحيين في الجمعية الوطنية أن عدد العائلات المسيحية التي هجرت مدينة الموصل بلغ 1566 عائلة. والمرجع الشيعي الأعلى آية الله العظمى علي السيستاني ندّد بعمليات تهجير المسيحيين. وكذلك الفاتيكان والأمم المتحدة والرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي ومرجعيات دينية ومدنية في العالم.
مَنْ هم مسيحيو العراق؟ وأيّ مصير ينتظرهم؟
مسيحيو عراق اليوم هم ورثة مسيحية شرقية لها تاريخ ناصع تتصل صفحاته الأولى ببدايات المسيحية. التنصّر في بلاد ما بين النهري يعود لتبشير القديس توما الرسول. والكنائس الأولى في شمال الموصل تعود إلى القرن الثاني. إلا أن الصفحات الأكثر إشراقاً في هذا التاريخ هي تلك التي كُتبت في القرون الأولى للإسلام، خصوصاً في الحقبة العباسية.
وفي حالة العراق قد نشهد، بحزن كبير، أول بلد عربي يُفرغ من مسيحييه. وبذلك، ينقطع العيش المشترك الإسلامي ـ المسيحي الذي دام منذ ظهور الإسلام وحتى أيامنا. وصفحة التاريخ المتعلقة بالعيش الإسلامي ـ المسيحي في العراق هي من أبهى الصفحات. وعندما أسّس الخليفة العباسي المأمون، في العام 830، بيت الحكمة في بغداد أوكل إدارته إلى الفارسي سهل بن هارون، وكان الطبيب النسطوري يوحنا بن ماسويه المترجم الأساسي هناك في تلك الحقبة. وعند موت هذا الأخير تولّى تلميذه حنين بن اسحق إدارة مدرسة الترجمة.
إلا أن الكنيسة النسطورية التي قطعت العلاقات مع كنائس العالم الروماني في القرن الخامس، فقدت على مرّ الزمن عدداً كبيراً من مؤمنيها انتموا إلى الكثلكة ولا سيما أثناء القرون الأربعة الأخيرة. واليوم، ما بقي من هذه الكنيسة الأصل يسمّى الكنيسة الآشورية المشرقية، ومعظم أعضائها (130 ألفاً) في أميركا وكندا واستراليا، والباقون (كانوا 50 ألفاً) في العراق.
القسم الأكبر من مسيحيي العراق اليوم هم من الكلدان الكاثوليك. أما باقي المسيحيين فهم ارثوذكس من طوائف واتنيات مختلفة، وعددهم كان يناهز قبل احتلال العراق 120 ألفاً، إلى بضعة آلاف من الانجيليين والانغليكان وغيرهم.. بالتالي فإن عدد المسيحيين في العراق كان يشكّل نحو ثلاثة في المئة من السكان، من أصل 26 مليون عراقي معظمهم من المسلمين الشيعة والسنّة.
أما أسباب تضاؤل عددهم فهي عديدة أهمها إغراءات القوى الأوروبية (خصوصاً البريطانية)، ولا سيما في العام 1919 (لجنة كنغ ـ كرين) لحملهم على المطالبة بحكم ذاتي بحماية تلك القوى. وكان الآشوريون أشدّهم حماسة لتلك الإغراءات. فعندما تخلى حماتهم عنهم، حلّت بهم الكارثة في العام 1933، فتهجّر القسم الأكبر منهم إلى أميركا.
أما الكلدان فقد اختاروا، بوجه الإجمال، الولاء للوطن العراقي، وحفظوا أنفسهم من انفجار المشاعر ضدّ الأقليات المشكوك في وطنيتها. لكن هؤلاء انتقلت أكثريتهم الساحقة، خلال الأعوام الثلاثين الماضية، من معقلها التاريخي في شمال العراق (كردستان) إلى مدن الوسط والجنوب. وانتقالهم هذا إلى المدن تسبب بغربة نسبية. وعندما وقعت حرب الخليج الأولى ثم الثانية والحصار المفروض على العراق اشتدت إغراءات الهجرة.
يذكر جوزيف يعقوب، المؤرخ والأستاذ في جامعة ليون الفرنسية، "ان 350 ألفاً هاجروا من العراق منذ العام 1961، أي وقت الثورة الكردية، ثم تابعوا مسيرة الهجرة بحيث أنهم كانوا في العام 1961 حوالى المليون، وراحت الهجرة تستنزف أعدادهم (70 ألف في ديترويت). وتفاقمت الهجرة مع بداية الحصار على العراق في العام 1990 حيث هاجر نحو 250 ألفاً من المسيحيين".
أما مع بداية الحرب الأميركية على العراق وحتى اليوم فإن الاستنزاف الديموغرافي ما زال قائماً. وزّع، منذ أشهر، موقع "طيبيان" التابع للرابطة السريالية في لبنان تقريراً أعدّته "منظمة حمورابي لحقوق الإنسان" العراقية عن انتهاكات حقوق المسيحيين، الكلدانيين والاشوريين السريان والأرمن في العراق، حمل تفاصيل دقيقة مدعّمة بالوثائق تظهر الحجم الحقيقي للمأساة التي تعيشها الأقليات المسيحية في بلاد الرافدين. وأوضح أن التقرير محصلة سنة كاملة من الإعداد والبحث الميداني والإحاطة الكاملة بأسماء الضحايا الـ331. وعرض التقرير الجهات التي استهدفت المسيحيين العراقيين وهم على الشكل الآتي: 235 قتلوا على أيدي مسلحين مجهولين أو ميليشيات، 56 قتلوا لوجودهم في أماكن حدثت فيها انفجارات و31 قتلوا بنيران القوات الأميركية أو المتعددة الجنسية و9 قتلوا نتيجة تبادل إطلاق نار بين قوات أميركية ومسلحين أو بقصف عشوائي.
وذكر التقرير أن أكثر من 200 عائلة مسيحية أُجبرت على ترك ممتلكاتها ومنازلها الخاصة في منطقة الدورة خلال شهري نيسان وأيار من العام 2007 (ما يعني أن الوضع قد تفاقم في تاريخ نشر هذا المقال!).
حالياً، الهجرة المكثفة لمسيحيي العراق تتجه نحو سوريا. فهناك نحو عشرة آلاف مسيحي عراقي يعيشون حالياً في سوريا. هناك أيضاً هجرة نحو الأردن ولبنان، إلا أن سوريا هي "المحطة المفضّلة" لأنها، في رأي مسؤول في مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة للاجئين، أقل كلفة في المعيشة ونظراً إلى طبائعها الثقافية المشتركة مع العراق.
العراق إلى أين؟ وهل تطال "العرقنة" بلداناً عربية أخرى؟!
الكاردينال عمانوئيل الثالث دلّي، بطريرك بابل للكلدان قال، منذ أيام قليلة، في تصريح صحافي: "لقد عشنا مدة 14 قرناً بروح التسامح والأخوّة، متقاسمين العيش وبانين سويّة أمتنا الحبيبة. لا يجب أن نستسلم للقوى المظلمة التي تأتي من الخارج لكي تدمّر وحدتنا الوطنية"!.