رأيي صواب يحتمل الخطأ،
ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
الامام الشافعي
من يقتل المسيحيين في العراق؟
ولماذا يُهجَّر المسيحيون ويهاجرون من لبنان وفلسطين ومصر والعراق؟
وهل هو الاسلام الذي يهجّر غير المسلمين ليسود فوق ارض يعتبرها ملكاً للامة لا يجوز "تدنيسها". ام هم مسلمون متخلفون رفضوا الحداثة ودخول العصر، فاندفعوا الى جاهلية همجية لا تميز بين الكفار وعبدة الاوثان من جهة، واهل الكتاب، الذين اوصى بهم النبي محمد اتباعه، وخصهم في سورة المائدة (9) من جهة أخرى، والتي التي جاء فيها: "ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ومَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم، ولا من يحزنون". وهذه السورة التي ارادها الرسول هداية الى المسلمين في المساواة بينهم وبين النصارى، دعمتها سورة الحج (17) التي قال فيها "ان الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين اشركوا، ان الله يفصل بينهم يوم القيامة. ان الله على كل شيء شهيد". وهو هنا منع على المسلمين الذين أخذوا بآيات السيف التي جسدتها سورة التوبة "فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، ان يكونوا هم الديّانين فيقيمون انفسهم مكان الله عز وجل.
ويرى المفكر الإسلامي عبد الحسين شعبان أن ثمة آيات كثيرة في القرآن اهمها سور الكهف والغاشية والمائدة والحج التي تشير الى مبادىء اساسية في الاسلام، "وهي مبادىء انسانية عامة كالحرية وهي هاجس فطري لبني البشر الذين يولدون وهم مجبولون على الحرية". وهذا ما دعا اليه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين أطلق مقولته الشهيرة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً؟". وما قاله الامام علي في نهج البلاغة مخاطباً عامله في مصر مالك بن الاشتر النخعي: "لا تكوننّ على الناس سبعاً ضارباً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان، اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق"، والذي لقى صداه في الاعلان العالمي لحقوق الانسان بعد نحو 14 قرناً.
صحيح أن التسامح لم يرد صراحة في القرآن، الا ان التساهل الذي ورد فيه فُسِّر على ان مرادف للتسامح. فكيف يمكن ان يتحول دين الرحمة والسماح، دين القتل والذبح لـ"الآخر"؟
ويشير شعبان، في كلامه على جذور التسامح في الإسلام، الى ما يعرف بـ"حلف الفضول" الذي أبرم اواخر القرن السادس الميلادي بين 590 و595 حين اجتمع فضلاء مكة في دار عبدالله بن جدعان، وتعاهدوا على "ألا يدعوا ببطن مكة مظلوماً من اهلها او مَن دخَلَها من غيرهم من سائر الناس إلا وكانوا معه على ظالمه حتى تُردّ مظلمته".
وقد ألغى النبي محمد كل احلاف الجاهلية باستثناء "حلف الفضول". واذ سئل عن مبرر ذلك اجاب: "شهدت مع أعمامي في دار عبدالله بن جدعان حلفاً لو انني دُعيت الى مثله في الإسلام لأجبت".
وكان هذا الحلف ينطوي على تعاهد يتناول الآتي:
1 – رفض الظلم والعمل على إلغائه.
2 – المساواة بين اهل مكة وسائر الداخلين إليها. بما يفيد التزام حماية "الآخر" بقطع النظر عن دينه او انتمائه القبَلي.
3 – إحقاق الحق ونصرة المظلوم وردّ حقوقه إليه.
4 – المحافظة على حياة الناس وكرامتهم.
5 – اللجو ء الى هيئة فضلاء لردّ الظلم.
ويقول شعبان عن هذا الحلف إن فكرته قد "اغتذت وتعمقت بالقيم والمبادئ التي تستند الى التسامح التي جاء بها القرآن الكريم".
ويرد "بعض الاتجاهات الإسلاموية" في التنكّر لفكرة التسامح واحترام الآخر والتضامن معه ضد ظالميه، الى أنها "لا تختلف احياناً في بعض ممارساتها عن السلطات الحاكمة (الإسلامية بالطبع) في نهجها الشمولي واساليبها الاقصائية، وفي رفض الآخر، وعدم الاعتراف بحق الاختلاف، ورفض فكرة التسامح بادعاء امتلاك الحقيقة. وبهذا المعنى، وإن تكن احياناً في صف "المعارضات"، الا انها رضعت من ثدي واحد مع بعض الحكومات الاستبدادية او السلطوية".
•••
في مقاربة اخرى، كتب المفكر الاسلامي رضوان السيد إثر تشييع الاسقف بولس فرج رحو رئيس اساقفة الموصل الذي خُطف وقُتل، ان عدد المسيحيين في العراق ايام الديكتاتورية كان مليونا، فهبط في العهد "الديموقراطي" الى مئة الف! واستمر الهبوط الى الان، في حين انه عند ظهور الاسلام كان نصف عرب الجزيرة العربية من المسيحيين. ويهاجر المسيحيون العراقيون هربا من "الخوف من القتل، وضيق سبل العيش...".
واذ يشير الى الضغوط التي تعرض لها المسيحيون في دول عربية، يقول: "ان اكبر ما أثّر في مصائر المسيحية العربية في العقود الثلاثة الاخيرة التحولات الثقافية والاجتماعية وتحولات الوعي في قلب الاكثريات الاسلامية بالمشرق. فقد تنامت لدى المسلمين وجوه وعي خصوصية وطهورية احدثت انشقاقات داخل الاسلام نفسه، وبين مذاهبه – واثرت بالاول في رؤية الآخر المسيحي الذي صار غريبا تارة، او حليفا للنظام الحاكم الذي لا يريده الصحويون تارة اخرى".
ويضيف: "كان المسيحي العراقي في عهد البعث (...) يحتمي بالسلطة القائمة. اما اليوم فلم يعد له حام الا الاكثرية التي سيطرت في منطقته والتي تعتبره غريبا على اي حال، وما عاد وعيها يتسع لغير ذوي الولاء المطلق السائدين في تلك البقعة. وتشير "الهبات" العنفية ضده في بعض النواحي الى الوعي المتغير لدى الاكثرية الاسلامية تجاهه".
وعن مسيحيي لبنان يقول: "شكّل النزاع الداخلي اللبناني حول المقاومة الفلسطينية ضربة قاسية للانتشار المسيحي وللدور المسيحي لبنانيا واقليميا (...) وعندما انجلى النزاع الداخلي موقتا مطلع التسعينات ظهر التهميش المسيحي".
ويشير الى "انقسام المسيحيين فريقين، واحدهما ملتحق بالشيعة والآخر ملتحق بالسنة، وهجرة الشباب متفاقمة لدى سائر الفئات لكنها ظاهرة لدى المسيحيين ومؤثرة اكثر، شأن فلسطين وسوريا والعراق".
•••
لقد صمت الجميع في الوسط الاسلامي اللبناني عما يجري في الموصل من قتل واضطهاد وتهجير للمسيحيين، ولم يرتفع سوى صوت نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى الشيخ عبد الامير قبلان مستنكراً ما يجري للمسيحيين هناك، معتبراً "ان الاعتداء على المسيحيين امر مخالف للاسلام". وكأن تشرذم المسيحيين والتحاقهم بالفريقين الشيعي والسني قد أنهيا دورهم وأظهرا "خرافة" لبنان "الرسالة" التي تغنى بها المسلمون، والسنة منهم خصوصاً، لكسب المسيحيين الى جانبهم في الصراع على السلطة مع الشيعة.
وانها مناسبة ذهبية لتستيقظ بكركي وسائر المرجعيات المسيحية على ما ينتظر المسيحيين في لبنان من مصير شبيه بمسيحيّي الموصل، اذا ما استمروا مشتّتين في غياب تضامن المسلمين معهم وتغليبهم المصالح الطائفية والمذهبية على المصالح الوطنية.
واننا لنتساءل: ما قيمة أدبيات الحوار الاسلامي – المسيحي، والكلام المجتّر عن "العيش المشترك" ووحدة الموقف حيال الاستقلال والسيادة والحرية اذا كان الوجود مهدداً؟
وما نفع اخذ المسيحيين بقول الانجيل: "احبوا اعداءكم، وباركوا لاعنيكم، اذا كان هناك من يحلل قتلهم باسم الله والدين؟
ثم لماذا لا يرتفع صوت مفتي السنّة داعياً الى حلف اسلامي – مسيحي، فيه السنّة والشيعة والدروز، شبيه بـ"حلف الفضول" من اجل النظر في مستقبل العلاقات بين الإسلام والمسيحية في الشرق العربي، من اجل رفض الظلم... والمساواة... و"احقاق الحق ونصرة المظلوم وردّ حقوقه إليه" سواء أكان في لبنان أم العراق أم فلسطين أم سوريا او مصر؟
واننا لنخشى ان يتحقق ما قاله الصحافي والمفكّر المصري الراحل احمد سيد احمد في حلقة دراسية مغلقة عقدت في الاردن قبل سنوات للبحث في مصير مسيحيي القدس الذين هبطوا من 29 الفاً الى 10 آلاف، مسيحيي الشرق عموماً، من ان الصراع المستقبلي لن يكون بين المسيحيين والمسلمين، بُل بين اليهود والمسلمين، وخصوصاً متى سيطرت اسرائيل على العالم العربي، شعوباً ومقدرات، وهذا ليس بمستحيل!
... الا استفيقوا ايها العرب!