ابتهج الرئيس جلال الطالباني عندما أخبره الضابط الكردي أن مدافع الفرقة تصيب الهدف من مسافة 60 كيلومتراً، وسأله: "وإذا كان الهدف على بُعد كيلومتر واحد"؟..
قال الضابط: "نسحب المدافع مسافة 59 كيلومترا ونضرب". هذه النكتة تصوّر تكتيك السياسيين الأكراد المتعاونين مع الاحتلال في الاستيلاء على حقول النفط والغاز العراقية. وللأكراد فضل اللعب على المكشوف بالمقارنة مع زعماء عرب يتعاونون مع الاحتلال وفق المثل المشهور: "يُصَّلون وراء الإمام علي، ويأكلون على مائدة معاوية"! والله يعلم من أين لمهندسي وخبراء النفط الوطنيين تفاؤلهم الذي قد تصوره نكتة أرجو أن تتسع لها خاتمة هذه المقالة.
وأسباب الضحك كثيرة مع المسؤولين الأكراد، وأولها تحويل جغرافية وهوية جبال، وتكوينات جيولوجية، وحقول نفطية معروفة. يعرض تفاصيل ذلك مهندس وخبير النفط فؤاد الأمير في دراسة عنوانها "حكومة إقليم كردستان وقانون النفط والغاز". ويذكر الأمير في دراسته، التي تقع في 28 ألف كلمة أن عقد المشاركة الذي وقعه الأكراد مع شركة "هنت أويل" Hunt Oil الأميركية، لا يخالف الدستور العراقي فقط، بل "القانون الكردي للنفط" أيضاً، وتنقض عقده بصورة سريّة ادِّعاءات المسؤولين الأكراد الالتزام بالشفافية.
يشمل العقد جبال "قند" و"فجر" و"نرجس" و"عين سفني"، وهي حسب نشرة نفط الشرق الأوسط "ميس" MEES، تراكيب معروفة تقع في محافظة نينوى الواقعة خارج كردستان. وفي حين يعلن المسؤولون الأكراد داخل العراق أنها في محافظة "دهوك" الكردية، يؤكدون في الولايات المتحدة أنها في محافظة نينوى والتي هي، حسب ادعائهم، "تاريخياً كردية، ولكن العرب يطالبون بها"!
الاستيلاء على قبة "خرمالة" يمثل الطلقة الأولى في معركة الأكراد... فهي إحدى القبب الثلاث لحقل كركوك، والتعامل المنفرد مع إحداها يهدد بانهياره!
ومن يسهُلُ عليه التلاعب بهوية واحدة من أشهر العواصم في التاريخ، لن يصعب عليه التلاعب بالجيولوجيا. حدث ذلك بتحويل هوية "طق طق" من "حقل" غني باحتياطياته النفطية الممتازة إلى "رقعة" نفطية يجوز إدخالها في ما يسمى "عقود المشاركة في الإنتاج". وهنا "مربط الفرس" في الصراع الجاري حول نفط العراق. فهذه العقود تحقق هدف الاحتلال بالاستحواذ على ثالث، وربما أول احتياطيات نفطية في العالم. ويعارض أغلب خبراء ومهندسي النفط العراقيين هذه العقود التي رفضتها أكبر ست دول منتجة للنفط. ولا تُستخدم هذه العقود إلاّ في حقول نائية غير مجزية تحتاج إلى عمليات تطوير مكلفة تستغرق سنوات طويلة. وحقل "طق طق" الذي حفر فيه المهندسون العراقيون ثلاث آبار في أواخر السبعينيات، قد يكون أثمن اكتشاف في شمال العراق منذ العثور على حقول كركوك مطلع القرن الماضي.
وقد حدث لحقول "خرمالة" و"كورمور" و"جمجمال"، ما حدث لحقل "طق طق". وإذا كانت "طق طق" بالنسبة لحكومة الإقليم الكردي مسرحية هزلية، فهي بالنسبة لحكومة بغداد مهزلة مأساوية. فالمسؤولون في "وزارة النفط الاتحادية" لم يدروا ما حدث لـ"طق طق" إلاّ عندما طلبت "وزارة النفط" في إقليم كردستان تحويل هويته من "حقل" إلى "رقعة". وكان قد مضى آنذاك ثلاث سنوات على توقيع العقد، والعمل جار في الموقع بمعدلات جيدة منذ عامين، حسب ادّعاء "شركة عمليات طق طق" Taq Taq Operating Company التي يملكها كونسوريوم كندي تركي!
والاستيلاء على قبة "خرمالة" يمثل "الطلقة الأولى في معركة حكومة إقليم كردستان للسيطرة على كركوك"، حسب نشرة النفط الأميركية PIW. فهي واحدة من ثلاث قبب يتكون منها حقل كركوك، والتعامل المنفرد مع إحداها يهدد بانهيار الحقل الذي يُعّدُ أقدم الحقول العراقية المكتشفة. وتثير دراسة المهندس "فؤاد الأمير" تساؤلي عن جدوى الرهان على القوى المتعاونة مع الاحتلال؟ ألم توافق حكومة المالكي بشكل سري على "قانون النفط والغاز" الذي ندّد به معظم خبراء النفط العراقيين، وكشف عن هفواته القانونية "مجلس شورى الدولة"؟ وما قيمة الاحتكام إلى "الدستور"، وهو حسب اعتراف الأمير، "حمّال أوجه"؟
وقد صيغ الدستور والقانون حسب "قاعدة ترومان" التي ابتكرها رئيس الولايات المتحدة الأسبق هاري ترومان: "إذا لم تستطع أن تقنعهم شوِّشهم". ولجأ المحتلون والمتعاونون معهم إلى أعتى وسائل التشويش: ذبح وتشريد الملايين من أبناء العراق، وبذر الفتنة الإثنية والطائفية بين سكانه. والآن يدرك أكثر العراقيين أن "الدستور" و"مجلس النواب" و"قانون النفط والغاز"... من بذور الفتنة الشريرة. ولا يجهل ورثة أغنى الحضارات بالقوميات والأديان والعقائد، أن وضع المصالح الإثنية والطائفية فوق مصالح الدولة يؤدي إلى التضحية بكليهما.
أرجو أن يدرك ذلك أكاديميون عراقيون أودّهم ساهموا أخيراً بإنشاء مركز استشارات وبحوث في لندن يحمل اسم "العراق للطاقة". يرأس مجلس أمناء المركز علي علاّوي الذي ارتبط اسمه بكتابة ما يُسمى "البيان الشيعي" المشهور، وكان أول وزير دفاع بعد الاحتلال، وتولى وزارة المالية في حكومة الجعفري. ويضم مجلس الأمناء موظفين سابقين في احتكارات النفط "بريتيش بتروليوم" و"شيل" و"بكتل" التي تستهدفها شعارات المتظاهرين حول العالم: "ارفعوا أيديكم عن نفط العراق". وبين الأمناء مدير شركة خليجية عقدت "بروتوكول التحالف الاستراتيجي" لتطوير الغاز في كردستان، فيما كانت وزارة النفط العراقية تفاوض حول المشروع شركة هندية! ومع أن مركز "العراق للطاقة" لم يعلن بعد موقفه من موضوع "عقود الإنتاج المشتركة"، إلاّ أنّ ناطقه الرسمي كتب مقالة مقذعة ضد معارضي هذه العقود، والذين يشكلون الأغلبية المطلقة من مهندسي وخبراء النفط العراقيين.
وشراء ضمائر خبراء النفط العراقيين هو الهدف الأساسي الآن لاحتكارات النفط العالمية، والتي تشارك في مؤتمر للمغتربين العراقيين تنظمه "وزارة التنمية الدولية" البريطانية. موضوع المؤتمر الذي يُعقد هذا الشهر في الكويت "تنشيط الأعمال في منطقة البصرة". ويعقبه مؤتمر مماثل في لندن في أبريل المقبل.
وليس كخراب البصرة برهان على فساد الاحتلال. فالبصرة لم تشهد ما يُسمى "مذابح طائفية"، وهي توّفرُ حسب تقديرات لندن "90% من موارد العراق و70% من احتياطياته النفطية". مع ذلك لا تجد لندن ما تُغري به المستثمرين سوى الوعد بأن يصبح العراق روسيا أخرى! يعني هذا قيام أفسد طبقة نفطية تكنوقراطية في التاريخ، وهي التي كانت وراء "عقد الإنتاج المشترك" الوحيد الذي منحته موسكو لاحتكارات النفط العالمية، وانتهى أفرادها إلى السجن داخل روسيا أو الاغتيال خارجها. وموسكو ليست البصرة، حيث بلغ عدد قتلى القوات البريطانية هذا الأسبوع 175 مجنداً.
وفي البصرة، كما في جميع أنحاء العراق، لن "تفرط القوى الوطنية بجزء هنا وجزء هناك "خوفاً" من البطش الأميركي"، حسب المهندس الأمير: "لقد بطش الاحتلال ولم ينجح، والآن الدور على القوى الوطنية للحصول على الحقوق، وأهمها الحقوق في النفط".
وباقي القصة ترويها نكتة عن امرأة حامل تصرخ وتولول من آلام الوضع، عندما سمعت زوجها يتضرع داعياً الله أن ينجيها، ويُقسم أن لا يقربها مرة أخرى طوال حياته. توقفت الزوجة عن الصراخ وزعقت بزوجها: "شنو هذي السخافة؟!.. هيّه كلها ساعة شدّة وتنقضي"!