لقد أجرت الولايات المتحدة الأميركية وإيران أولى محادثات دبلوماسية رسمية بينهما بعد مضي ثلاثة عقود من القطيعة التامة، يوم الاثنين الماضي. وقد نظر الكثير من المراقبين، إلى هذه الخطوة باعتبارها حدثاً واقعياً كان واجباً القيام به منذ مدة طويلة، وأن من شأنها أن تفتح نافذة جديدة لبدء التعاون بين البلدين فيما يساعد على تخفيف خطر النزاع الطائفي المدني الدائر حالياً في العراق، وكذلك من حدة التمرد الراهن على الاحتلال الأميركي للعراق.
لكن على أي حال، فإن هناك في واشنطن وإسرائيل، من نظر إلى هذه المحادثات، على أنها مجرد استرضاء وضعف أمام دولة يصفونها بـالمارقة، وهي الدولة التي وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، بنيامين نتانياهو، بأنها الدولة النووية المهووسة الأولى، التي تستعصي على الردع، على نطاق العالم كله. وتضمن وصف نتانياهو أيضاً لإيران، صفات أخرى من قبيل الدولة الكارثية، التي تقودها مجموعة من المتشددين، العازمين على الحصول على السلاح النووي، لإلحاق الدمار الشامل، بالبشرية بأسرها. وضمن التباين في المواقف وردود الأفعال هذه، قيل إن ديك تشيني نائب الرئيس بوش، بين عدد آخر من المسؤولين، لا يزال يعتقد أن من الواجب مهاجمة وتدمير المنشآت والبرامج النووية الإيرانية، بدلاً من إجراء المحادثات السلمية معها. وفيما نقل عنه، أنه بذل جهوداً حثيثة من أجل تغليب وجهة نظره هذه داخل الإدارة، في مواجهة معارضة قوية لهذا الاتجاه، تقودها وزيرة الخارجية، كوندوليزا رايس. غير أن من المتوقع من أي مسؤول أميركي يتحفظ على خوض المزيد من الحروب والمواجهات العسكرية، أن ينظر نظرة إيجابية متفائلة إلى محادثات بغداد الأخيرة هذه، بصرف النظر عن النتائج النهائية العملية التي ستفضي إليها. ذلك أن الوضع الحالي في العراق، قد انتقص كثيراً من المصداقية العسكرية والدبلوماسية الأميركية، إضافة إلى إضعافه لصورة أميركا أخلاقياً في نظر المجتمع الدولي. ومن الناحية الأخرى، فقد ألحقت الحرب دماراً هائلاً بالعراق نفسه، الذي كان مجتمعه فاعلاً وقادراً على البقاء في ظل القهر الديكتاتوري، مع العلم بأن النظام الشمولي، ظل هو نمط الحكم السائد، منذ رحيل الاحتلال الأجنبي. ولذلك فقد كان متوقعاً الترحيب بكل ما من شأنه أن يضع حداً لهذا المأزق الأميركي في العراق، إضافة إلى ما لواشنطن وطهران من مصالح قومية مشتركة في الحيلولة دون تدهور العراق إلى قاع الهوة السحيقة التي حفرها له الغزو العسكري الأميركي الطائش. على أن ذلك لا ينفي حقيقة أن للطرفين مصالح متضاربة في هذا الأمر، طالما أن التورط الأميركي في العراق، لا يزال يواصل إضعاف الولايات المتحدة الأميركية وصورتها العالمية، كما أن له تأثيراته السالبة المدمرة على علاقة واشنطن بالجزء الغالب من المجتمعات الإسلامية، أينما كانت، إلى جانب تخريبه لعلاقات واشنطن بكافة المجتمعات الفقيرة، خارج حدود العالم الغربي المتقدم. وبما أن "مصائب قوم عند قوم فوائد" فإن مواضع "مصيبة" أميركا هذه، هي عينها "فائدة" إيران مما ألمَّ بـ"الشيطان الأكبر" من محن وابتلاءات، إذا ما أخذنا في الاعتبار، تاريخ وطبيعة العداءات الأميركية- الإيرانية طوال العقود الثلاثة الماضية. وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه لم يكن ثمة ما يربط بين أميركا وإيران البتة، حتى تاريخ اندلاع الحرب العالمية الثانية. وكانت الإمبراطورية الفارسية الآفلة، قد خاضت حروباً طويلة الأمد مع كل من روسيا وأفغانستان، المدعومة من قبل بريطانيا وقتئذ، بسبب التنازع الإقليمي على الحدود والأراضي الواقعة في منطقة جبال القوقاز. وفي عام 1899، كانت بريطانيا قد سعت لإقامة محمية هناك، بيد أن روسيا الثورية ساندت جيرانها الفرس في مقاومة ذلك المسعى البريطاني. وفي عام 1921 أفضى انقلاب رضا خان العسكري المغامر، إلى تنصيب نظام رضا بهلوي، الذي وقفت خلفه وساندته بريطانيا أولاً ثم أميركا لاحقاً، ضد الحركات الديمقراطية الدستورية الوطنية. واستطاع ذلك النظام أن يحكم إيران على امتداد 58 عاماً، إلى أن هبت الثورة الإيرانية في شهر نوفمبر من عام 1979، لتعصف بنظام نجل الشاه رضا خان، الذي كان آخر حكام إيران من عائلة الشاه. وقد لقي هذا الشاه الأخير حتفه ربما متأثراً ومتحسراً على لفظ واشنطن وتنكرها له، بعد أن خلع من عرشه ومجده البلاطي.
ومن أشهر وقائع الثورة الإسلامية تلك، عناصر قيل إنها من قوات الحرس الثوري، لموظفي السفارة الأميركية في العاصمة طهران، فيما عرف حينها بأزمة الرهائن الأميركيين، التي استمرت حتى يناير من عام 1981. وكان أنف أميركا قد مرغ في وحل تلك الإهانة البالغة، إضافة إلى عار فشل العملية العسكرية التي قصد منها تحرير الرهائن في أبريل من عام 1980.
ولكن دعونا نرسم سيناريوهات مغايرة لما حدث من أمر تلك المخازي الأميركية التي شهدتها طهران في نهايات عقد السبعينيات. لنفترض مثلاً وعلى إثر اعتداء عناصر الحرس الثورري على السفارة الأميركية في طهران، أن واشنطن حمّلت تلك العناصر والحكومة الإيرانية كامل المسؤولية عن ذلك الانتهاك الخطير الذي حدث للقانون الدولي، وأعلنت شن الحرب عليها رسمياً. ولنفترض أن الرد الأميركي الغاضب على ما حدث، تضمن أيضاً احتجاز عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين في واشنطن، حتى تتمكن منظمة الصليب الأحمر الدولي، من إكمال الترتيبات الخاصة بتبادل الأسرى في كلتا الدولتين. -وبالمناسبة، فقد كان ذلك هو اقتراح جورج كينان، إلا أنه ووجه بمعارضة شرسة غاضبة في واشنطن وقتئذ. غير أن الذي حدث بدلاً من ذلك، هو طرد أعداد كبيرة من الإيرانيين المقيمين في الولايات المتحدة حينها-. وعلى أي حال، فلنفترض أن تبادلاً كهذا قد حدث للأسرى بالفعل، وأنه تعين على واشنطن الاعتراف الرسمي بنظام الخميني، شريطة إعلان هذا الأخير التزامه بالشرعية والقوانين الدولية.
ففي حال تطبيق سيناريو أميركي- إيراني على هذا النحو، ربما كان موقف أميركا أفضل حينها بكثير، منذ ذلك اليوم وإلى الآن، ولكان لها أن تتفادى الدمار الثنائي الذي حاق بعلاقة كلتا الدولتين منذ عام 1979 وإلى اليوم. بل لو أن سيناريو كهذا قد حدث بالفعل، لما توفرت لطهران أية أرضية تقيم عليها صفة "الشيطان الأكبر" التي تطلقها على خصمها الأميركي. وبالنتيجة أيضاً، ما كان ممكناً وجود أدنى مبرر تقيم عليه طهران مساعيها الرامية إلى التسلح، بزعم "الخطر الأمني الأميركي" عليها. بل ربما جنّب ذلك السيناريو، كلاً من العراق وإيران، شر حرب الثمانية أعوام التي دارت بينهما خلال الجزء الأكبر من عقد الثمانينيات. ووفقاً لمنطق السيناريو نفسه، فليس مستبعداً ألا تكون واشنطن بأدنى حاجة إلى غزوها الحالي للعراق. بل ربما سادت علاقات السلام والتعاون، بين واشنطن وإيران ما بعد الثورة الإسلامية، وكذلك علاقات التعاون والسلام بين واشنطن ودول أخرى في المنطقة. لكن للأسف فذلك السيناريو لم يتحقق مطلقاً على الأرض.
ويليام فاف
كاتب ومحلل سياسي
ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"